الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
إذا تبين ذلك، فاعلم أن [مسائل التكفير، والتفسيق] هي من مسائل [الأسماء والأحكام] التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا؛ فإن الله ـ سبحانه ـ أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان، قال الله تعالى: فأخبر ـ سبحانه ـ عمن مضى ممن كان متمسكا بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين، وعن المؤمنين بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، أنه من جمع [الخصال الثلاث] التي هي جماع الصلاح، وهي الإيمان بالخلق، والبعث بالمبدأ والمعاد، والإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، وهو أداء المأمور به، وترك المنهي عنه، فإن له حصول الثواب وهو أجره عند ربه واندفاع العقاب فلا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه؛ ولذلك قال: فالأول: وهو إسلام الوجه هو النية، وهذا الثاني ـ وهو الإحسان ـ هو العمل. وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام، والإسلام العام، الذي أوجبه الله على جميع عباده، من الأولين والآخرين. / وهو [دين الله العام] الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث جميع الرسل، كما قال تعالى: فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة، بدعة الخوارج المكفرة بالذنب؛ فإنهم تكلموا في الفاسق المِلِّيّ، فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة، ومنهم من قال: والصغيرة لا تجامع الإيمان أبدًا، بل تنافيه وتفسده، كما يفسد الأكل والشرب الصيام، قالوا: لأن الإيمان هو فعل المأمور، وترك المحظور، فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات. / ثم قالت الخوارج: فيكون العاصي كافرًا؛ لأنه ليس إلا مؤمن وكافر، ثم اعتقدوا أن عثمان وعليا وغيرهما عصوا، ومن عصى فقد كفر، فكفروا هذين الخليفتين وجمهور الأمة. وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، أنه يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر. وقابلتهم المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية. فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية، والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين، من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين. ثـم قال فقهاء المرجئة: هـو التصـديق بـالقلب واللسـان، وقـال أكثـر متكلميهـم: هو التصديق بالقلب. وقال بعضهم: التصديق باللسان. قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية لخرج منه من لم يأت بها كما قالت الخوارج، ونكتة هؤلاء جميعهم: توهمهم أن من ترك بعض الإيمان فقد تركه كله. وأما أهل السنة والجماعة ـ من الصحابة جميعهم والتابعين، وأئمة أهل السنة وأهل الحديث، وجماهير الفقهاء والصوفية، مثل مالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، والشافعي، وأحمد بن حنبل / وغيرهم، ومحققي أهل الكلام- فاتفقوا على أن الإيمان والدِّين قول وعمل. هذا لفظ السلف من الصحابة وغيرهم، وإن كان قد يعني بالإيمان في بعض المواضع ما يغاير العمل، لكن الأعمال الصالحة كلها تدخل ـ أيضًا ـ في مسمى الدين، والإيمان، و يدخل في القول قول القلب واللسان، وفي العمل عمل القلب والجوارح. وقال المفسرون لمذهبهم: إن له أصولا وفروعا، وهو مشتمل على أركان وواجبات ـ ليست بأركان ـ ومستحبات، بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرهما من العبادات؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك، مثل الإحرام وترك محظوراته، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف ببيت الله الحرام، وبين الجبلين المكتنفين به، وهما الصفا والمروة. ثـم الحج مع هذا مشتمل على أركان، متى تركـت لـم يصـح الحج، كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد الحج، وهو الوطء. ومشتمل على واجبات، من فعل وترك، يأثم بتركها عمدًا، ويجب مع تركها ـ لعذر أوغيره ـ الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمـي الجمار ونحـو ذلك، وكترك اللباس المعتاد، والتطيب والصيد وغير ذلك . ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، فلا يأثم بتركها، ولا يجب دم، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، وسوق الهدى، وذكر الله، / ودعائه في الطواف، والوقوف وغيرهما، وقلة الكلام إلا في أمر بمعروف، ونهي عن منكر، أو ذكر الله ـ تعالى ـ فمن فعل الواجب، وترك المحظور، فقد أتم الحج والعمرة لله، وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هـذا العمل. لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم منه حجًا، وهو سابق مقرب،ومن ترك المأمور،وفعل المحظور،لكنه أتى بركنه، وترك مفسده فهو حاج حجا ناقصا، يثاب على ما فعله من الحج، ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك، مع عقوبته على ما تركه، ومن أخل بركن الحج أو فعل يُفسِده فحجه فاسد لا يسقط به فرض، بل عليه إعادته، مع أنه قد يتنازع في إثابته على ما فعله، وإن لم يسقط به الفرض، والأشبه أنه يثاب عليه. فصار الحج ثلاثة أقسام: كاملا بالمستحبات، وتاما بالواجبات فقط، وناقصا عن الواجب. والفقهاء يقسمون الوضوء والغسل إلى كامل ومجزئ، لكن يريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه، وبالمجزئ ما اقتصر علي واجبه، فهذا في [الأعمال المشروعة]. وكذلك في [الأعيان المشهودة]، فإن الشجرة ـ مثلا ـ اسم لمجموع الجذع والورق والأغصان، وهي بعد ذهاب الورق / شجرة، وبعد ذهاب الأغصان شجرة؛ لكن كاملة وناقصة، فليفعل مثل ذلك في مسمى الإيمان والدِّين، أن الإيمان ثلاث درجات: إيمان السابقين المقربين، وهو ما أتى فيه بالواجبات والمستحبات، من فعل وترك . وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين، وهو ما أتى فيه بالواجبات من فعل وترك، وإيمان الظالمين، وهو ما يترك فيه بعض الواجبات، أو يفعل فيه بعض المحظورات. ولهذا قال علماء السنة في وصفهم [اعتقاد أهل السنة والجماعة]: إنهم لا يُكَفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب، فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقًا به وانقيادًا له، فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن؛ ولهذا تواتر في الأحاديث:[أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان] [مثقال حبة من إيمان]، وفي رواية الصحيح أيضًا: [مثقال حبة من خير] [مثقال ذرة من خير] وقال صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة ـ:[الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان]، فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة، وأن قليله يخرج الله به من النار من دخلها، ليس هو كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل / السنة: أنه لا يقبل التبعيض والتجزئة، بل هو شيء واحد، إما أن يحصل كله، أو لا يحصل منه شيء. ومما يتصل به أن يعرف أن الإيمان هو من الأسماء الكتابية، القرآنية، النبوية، الدينية، الشرعية، فيتنوع مسماها قدرًا ووصفًا بتنوع الكتب الإلهية؛ فمنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية، مثل الإقرار بالله، واليوم الآخر، وعبادة الله وحده لا شريك له، والصدق والعدل. واعلم أن عامة السور المكية ـ التي أنزلها الله بمكة ـ هى في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم، والمؤمنين جميعهم. وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدرًا ووصفًا؛ فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته، ووصف اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء. ومنه ما تختلف فيه الشرائع والمناهج، كالقبلة والمنسك، ومقادير العبادات، وأوقاتها وصفاتها، والسنن والأحكام وغير ذلك، فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة، بل مسماه في الآخر أكمل، كما قال تعالى: ولهذا كان المؤمنون من الأولين والآخرين، من الذين هادوا، والنصارى، والصابئين، والمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مشتركين في الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، كما دل عليه القرآن. مع أن اليهود كان يجب عليهم الإقرار بما لا يجب علينا الإقرار به، مثل إقرارهـم بواجبات التوراة، وبمحرماتها، مثل السبت، وشحم الثَرْب [أي: الكرش والأمعاء] والكليتين [أي:الكرش والأمعاء].. ولا يجب عليهم التصديق المفصل بما لم ينزل عليهم من أسماء الله وصفاته، وصفات اليوم الآخر. ونحن يجب علينا من الإيمان بذلك مالم يجب عليهم، ويجب علينا من الإقرار بالصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وحج البيت، وغير ذلك مما هو داخل في إيماننا وليس داخلا في إيمانهم؛ فإن الإقرار بهذه الأشياء داخل في الإيمان باتفاق الأمة. وكذلك الإقرار بأعيان الأنبياء كان الإقرار بأعيانهم داخلا في إيمان من قبلنا، ونحن إنما يدخل في إيماننا الإقرار بهم من حيث الجملة. والمنازعون لأهل السنة منهم من يقول: الإيمان في الشرع مبقى على ما كان عليه في اللغة، وهو التصديق،ومنهم من يقول: هو / منقول إلى معنى آخر،وهو أداء الواجبات. وأما أهل السنة فقد يقول بعضهم:هو منقول كالأسماء الشرعية، من الصلاة، والزكاة، وقد يقول بعضهم: بل هو متروك على ما كان، وزادت عليه الشريعة أشياء. ومنهم من يقول: بل هو باق على أصله من التصديق مع دخول الأعمال فيـه؛ فـإن الأعمال داخلة في التصديق، فالمؤمن يصدق قوله بعمله، كما قال الحسن البصري: ليـس الإيمان بالتَّمَنِّى ولا بـالتَّحَلِّى؛ ولكـن مـا وَقـَر فـي القلـب، وصَدَّقه العمل. ومنـه قـول النبي صلى الله عليه وسلم: (والفَرْج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه ). ومنهم من يقول: ليس الإيمان في اللغة هو التصديق، بل هو الإقرار، وهو في الشرع الإقرار أيضًا، والإقرار يتناول القول والعمل وليس هذا موضع بسط ذلك، فقد بسطته في غير هذا الموضع. وإذا عرف مسمى الإيمان، فعند ذكر استحقاق الجنة والنجاة من النار، وذم من ترك بعضه ونحو ذلك ـ يراد به الإيمان الواجب، كقوله: وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فنفي عنه الإيمان الواجب الذى يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان، وسائر أجزائه وشعبه، وهذا معنى قولهم نفي كمال الإيمان لا حقيقته، أى الكمال الواجب، ليس هو الكمال المستحب، المذكور في قول الفقهاء الغسل كامل ومجزئ. ومن هذا الباب: قوله صلى الله عليه وسلم: (من غَشَّنَا فليس منا)، ليس المراد به أنه كافر، كما تأولته الخوارج، ولا أنه ليس من خيارنا، كما تأولته المرجئة، ولكن المضمر يطابق المظهر، والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب، السالمون من العذاب، والغاشُّ ليس منا لأنه متعرض لسخط الله وعذابه. وإذا تبين هذا، فمن ترك بعض الإيمان الواجب لعجزه عنه، إما لعدم تمكنه من العلم، مثل ألا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكنه من العمل ـ لم يكن مأمورًا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان / والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بمنزلة صلاة المريض، والخائف، والمستحاضة، وسائر أهل الأعذار، الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه، وبه أمروا إذ ذاك، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) رواه مسلم عن أبي هريرة في حديث حسن السياق، وقوله: (صلاة القاعد على النِّصْف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد) ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به، علمًا واعتقادًا دون العمل. فهذا أصل مختصر في [مسألة الأسماء]، وأما [مسألة الأحكام] وحكمه في الدار الآخرة، فالذى عليه الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان، بل يخرج منها من معه مثقال حبة، أو مثقال ذرة من إيمان. وأما الخوارج ـ ومن وافقهم من المعتزلة ـ فيوجبون خلود من / دخل النار وعندهم: من دخلها خلد فيها، ولا يجتمع في حق الشخص الواحد العذاب والثواب، وأهل السنة والجماعة، وسائر من اتبعهم متفقون على اجتماع الأمرين، في حق خلق كثير، كما جاءت به السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا، فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب إما لحسنات تمحو كبيرته منه أو من غيره، وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه أو من غيره فيه، وإما لغير ذلك. والوعيدية ـ من الخوارج والمعتزلة ـ يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد لهم، مثل قوله: وليس الغرض هنا تحرير هذه الأصول، وإنما الغرض التنبيه عليها، وكان ما أوقعهم في ذلك أنهم سمعوا نصوص الوعيد فرأوها عامة. فقالوا: يجب أن يدخل فيها كل من شملته، وهو خبر، وخبر الله صدق، فلو أخلف وعيده كان كإخلاف وعده، والكذب على الله محال، فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيرًا من أهل الكبائر فعاد كل فريق إلى أصله الفاسد. فقال الأولون: نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمنًا، وهؤلاء ليسوا مؤمنين. وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافرًا، وكل من القولين خطأ؛ فإن النصوص ـ مثل قوله: فهنا اضطرب الناس، فأنكر قوم من المرجئة العموم. وقالوا: ليس في اللغة عموم وهم الواقفية في العموم من المرجئة، وبعض الأشعرية والشيعية، وإنما التزموا ذلك لئلا /يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد. وقالت المقتصدة: بل العموم صحيح، والصيغ صيغ عموم؛ لكن العام يقبل التخصيص، وهذا مذهب جميع الخلائق، من الأولين والآخرين، إلا هذه الشرذمة قالوا: فمن عفي عنه كان مستثنى من العموم. وقال قوم آخرون: بل إخلاف الوعيد ليس بكذب، وأن العرب لا تعد عارًا أو شَنَارًا أن يوعد الرجل شرًا ثم لا ينجزه، كما تعد عارًا أو شَنارًا أن يعد خيرا ثم لا ينجزه، وهذا قول طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وقد احتجوا بقول كعب بن زهير يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ـ: نبئت أن رسول الله أوعدنى** والعفو عند رسول الله مأمول قالوا: فهذا وعيد خاص، وقد رجا فيه العفو، مخاطبًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلم أن العفو عن المتوعد جائز، وإن لم يكن من باب تخصيص العام. والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد / والوعيد، كما ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهى، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فكذلك في موارد النزاع. فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، وأنه يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل، وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أى في ذلك العمل ونحو ذلك. فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة. وبهذا تبين أنا نشهد بأن يبين هذا: أنه قد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها. وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر: أن رجلا كان يكثر شرب الخمر، فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، فنهى عن لعن هذا المعيَّن، وهو مُدْمِن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن شارب الخمر على العموم.
|